سورة النحل - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)}
{الذين تتوفاهم الملائكة} بتأنيث الفعل، وقرأ حمزة. والأعمش {يتوفاهم} بالتذكير هنا وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى، والوجهان شائعان في أمثال ذلك.
وقرىء بإدغام تاء المضارعة في التاء بعدها ويجتلب في مثله حينئذٍ همزة وصل في الابتداء وتسقط في الدرج وإن لم يعهد همزة وصل في أول فعل مضارع. وفي مصحف عبد الله بتاء واحدة في الموضعين، وفي الموصول أوجه الإعراب الثلاثة. الجر على أنه صفة {الكافرين} [النحل: 27] أو بدل منه أو بيان له، والنصب والرفع على القطع للذم؛ وجوز ابن عطية كونه مرتفعًا بالابتداء وجملة {فَأَلْقَوُاْ} خبره. وتعقبه أبو حيان بأن زيادة الفاء في الخبر لا تجوز هنا إلا على مذهب الأخفش في إجازته وزيادتها في الخبر مطلقًا نحو زيد فقام أي قام، ثم قال: ولا يتوهم أن هذه الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان موصولًا وضمن معنى الشرط لأنها لا يجوز دخولها في مثل هذا الفعل مع صريح أداة الشرط فلا يجوز مع ما ضمن معناه اه بلفظه. ونقل شهاب عنه أنه قال: إن المنع مع ما ضمن معناه أولى. وتعقبه بأن كونه أولى غير مسلم لأن امتناع الفاء معه لأنه لقوته لا يحتاج إلى رابط إذا صح مباشرته للفعل وما تضمن معناه ليس كذلك، وكلامه الذي نقلناه لا يشعر بالأولوية فلعله وجد له كلامًا آخر يشعر بها.
واستظهر هو الجر على الوصفية ثم قال: فيكون ذلك داخلًا في المقول، فإن كان القول يوم القيامة يكون {تتوفاهم} بصيغة المضارع حكاية للحال الماضية، وإن كان في الدنيا أي لما أخبر سبحانه أنه يخزيهم يوم القيامة ويقول جل وعلا لهم ما يقول قال أهل العلم: إن الخزي اليوم الذي أخبر الله تعالى أنه يخزيهم فيه والسوء على الكافرين يكون {تتوفاهم} على بابه، ويشمل من حيث المعنى من توفته ومن تتوفاه، وعلى ما ذكره ابن عطية يحتمل أن يكون {الذين} إلى آخره من كلام الذين أوتوا العلم وأن يكون إخبارًا منه تعالى، والظاهر أن القول يوم القيامة فصيغة المضارع لاستحضار صورة توفى الملائكة إياهم كما قيل آنفًا لما فيها من الهول، وفي تخصيص الخزي والسوء ن استمر كفره إلى حين الموت دون من آمن منهم ولو في آخر عمره، وفيه تنديم لهم لا يخفى أي الكافرين المستمرين على الكفر إلى أن تتوفاهم الملائكة {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} أي حال كونهم مستمرين على الشرك الذي هو ظلم منهم لأنفسهم وأي ظلم حيث عرضوها للعذاب المقيم {فَأَلْقَوُاْ السلم} أي الاستسلام كما قاله الأخفش وقال قتادة: الخضوع، ولا بعد بين القولين.
والمراد عليهما أنهم أظهروا الانقياد والخضوع، وأصل الالقاء في الأجسام فاستعمل في إظهارهم الانقياد وإشعارًا بغاية خضوعهم وانقيادهم وجعل ذلك اكلشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب. والجملة قيل عطف على قوله تعالى: {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ} [النحل: 27] وما بينهما جملة اعتراضية جيء بها تحقيقًا لما حاق بهم من الخزى على رؤوس الاشهاد. وكان الظاهر فيلقون إلى آخره إلا أنه عبر بصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي يقول لهم سبحانه ذلك فيستسلمون وينقادون ويتركون المشاقة وينزلون عما كانوا عليه في الدينا من الكبر وشدة الشكيمة، ولعله مراد من قال: إن الكلام قد تم عند قوله تعالى: {أَنفُسِهِمْ} ثم عاد إلى حكاية حالهم يوم القيامة، وقيل: عطف على {قَالَ الذين} [النحل: 27] وجوز أبو البقاء. وغيره العطف على {تتوفاهم} واستظهره أبو حيان، لكن قال الشهاب: إنه إنما يتمشى على كون {تتوفاهم} عنى الماضي، وقد تقدم لك القول بأن الجملة خبر {الذين} مع ما فيه. واعترض الأول بأن قوله تعالى: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء} إما أن يكون منصوبًا بقول مضمر وذلك القول حال من ضمير {أَلْقَوْاْ} أي ألقوا السلم قائلين ما كنا إلى آخره أو تفسيرًا للسلم الذي ألقوه بناء على أن المراد به القول الدال عليه بدليل الآية الأخرى {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول} [النحل: 86] وأيامًا كان فذلك العطف يقتضي وقوع هذا القول منهم يوم القيامة وهو كذب صريح ولا يجوز وقوعه يومئذ.
وأجيب بأن المراد ما كنا عاملين السوء في اعتقادنا أي كان اعتقادنا أن عملنا غير سيء، وهذا نظير ما قيل في تأويل قولهم {والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وقد تعقب بأنه لا يلائمه الرد عليهم {حَكِيمٌ إِنَّ الله} إلى آخره لظهور أنه لإبطال النفي ولا يقال: الرد على من جحد واستيقنت نفسه لأنه يكون كذبًا أيضًا فلا يفيد التأويل. ومن الناس من قال بجواز وقوع الكذب يوم القيامة، وعليه فلا اشكال، ولا يخفى أن هذا البحث جار على تقدير كون العطف على {قَالَ الذين} [النحل: 27] أيضًا إذ يقتضي كالأول وقوع القول يوم القيامة وهو مدار البحث.
واختار شيخ الإسلام عليه الرحمة العطف السابق وقال: إنه جواب عن قوله سبحانه: {أَيْنَ شُرَكَائِىَ} [النحل: 27] وأرادوا بالسوء الشرك منكرين صدوره عنهم، ونفى أن يكون جوابًا عن قول أولى العلم ادعاء لعدم استحقاقهم لما دهمهم من الخزى والسوء، ولعله متعين على تقدير العطف على {قَالَ الذين} [النحل: 27] إلى آخره، وإذا كان العطف على {تتوفاهم الملائكة} كان الغرض من قولهم هذا الصادر منهم عند معاينتهم الموت استعطاف الملائكة عليهم السلام بنفي صدور ما يوجب استحقاق ما يعانونه عند ذلك، وقيل: المراد بالسوء الفعل السيء أعم من الشرك وغيره ويدخل فيه الشرك دخولًا أوليًا أي ما كنا نعمل سوأ ما فضلا عن الشرك، و{مِنْ} على كل حال زائدة و{سُوء} مفعول لنعمل {بلى} رد عليهم من قبل الله تعالى أو من قبل أولى العلم أو من قبل الملائكة عليهم السلام، ويتعين الأخير على كون القول عند معاينة الموت ومعاناته أي بلى كنتم تعلمون ما تعملون.
{إنَّ اللَّهَ عَليمٌ بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فهو يجازيكم عليه وهذا أوانه.


{فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)}
{فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} خطاب لكل صنف منهم أن يدخل بابًا من أبواب جهنم، والمراد بها اما المنفذ أو الطبقة، ولا يجوز أن يكون خطابًا لكل فرد لئلا يلزم دخول الفرد من الكفار من أبواب متعددة أو يكون لجهنم أبواب بعدد الأفراد، وجوز أن يراد بالأبواب أصناف العذاب، فقد جاء إطلاق الباب على الصنف كما يقال: فلان ينظر في باب من العلم أي صنف منه وحينئذ لا مانع في كون الخطاب لكل فرد، وأبعد من قال: المراد بتلك الأبواب قبور الكفرة المملوءة عذابًا مستدلًا بما جاء «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» {خالدين فِيهَا} حال مقدرة أن أريد بالدخول حدوثه، ومقارنة ان أريد به مطلق الكون، وضمير {فِيهَا} قيل: للأبواب عنى الطبقات، وقيل: لجهنم، والتزم هذا وكون الحال مقدرة من أبعد، وحمل الخلود على المكث الطويل للاستغناء عن هذا الالتزام وان كان واقعًا في كلامهم خلاف المعهود في القرآن الكريم {فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} أي عن التوحيد، وذكرهم بعنوان التكبر للاشعار بعليته لثوائهم فيها، وقد وصف سبحانه الكفار فيما تقدم بالاستكبار وهنا بالتكبر، وذكر الراغب أنهما والكبر تتقارب فالكبر الحالة التي يتخصص بها الإنسان من اعجابه بنفسه، والاستكبار على وجهين: أحدهما أن يتحرى الإنسان ويطلب أن يصير كبيرًا، وذلك متى كان على ما يحب وفي المكان الذي يحب وفي الوقت الذي يحب وهو محمود. والثاني أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له وهو مذموم، والتكبر على وجهين أيضًا. الأول أن تكون الأفعال الحسنة كثيرة في الحقيقة وزائدة على محاسن غيره، وعلى هذا وصف الله تعالى بالمتكبر. والثاني أن يكون متكلفًا لذلك متشبعًا وذلك في وصف عامة الناس، والتكبر على الوجه الأول محمود وعلى الثاني مذموم، والمخصوص بالذم محذوف أي جهنم أو أبوابها أن فسرت بالطبقات؛ والفاء عاطفة، واللام جيء بها للتأكيد اعتناء بالذم لما أن القوم ضالون مضلون كما ينبىء عنه قوله تعالى: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] وللتأكيد اعتناء بالمدح جيء باللام أيضًا فيما بعد من قوله سبحانه: {وَلَدَارُ الاخرة خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين} [النحل: 30] لأن أولئك القوم على ضد هؤلاء هادون مهديون، وكأنه لعدم هذا المقتضى في آيتي الزمر والمؤمن لم يؤت باللام، وقيل: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} [الزمر: 72] وقيل: التأكيد متوجه لما يفهم من الجملة من أن جهنم مثواهم، وحيث أنه لم يفهم من الآيات قبل هنا فهمه منها قبل آيتي تينك السورتين جيء بالتأكيد هناك ولم يجىء به هنا اكتفاء بما هو كالصريح في إفادة أنها مثواهم مما ستسمعه إن شاء الله تعالى هناك.


{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)}
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا} أي المؤمنين، وصفوا بذلك اشعارًا بأن ما صدر عنهم من الجواب ناشىءمن التقوى.
{مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا} أي أنزل خيرًا {فَمَاذَا} اسم واحد مركب للاسفهام عنى أي شيء محله النصب {بأنزل} و{الله خَيْرًا} مفعول لفعل محذوف، وفي اختيار ذلك دليل على أنهم لم يتلعثموا في الجواب وأطبقوه على السؤال معترفين بالإنزال على خلاف الكفرة حيث عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو {أساطير الاولين} وليس من الإنزال في شيء. نعم قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما {خَيْرٌ} بالرفع فما اسم استفهام و{ذَا} اسم موصول عنى الذي أي أي شيء الذي أنزله ربكم، و{خَيْرٌ شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا} منصوبًا على المفعولية كما مر ورفع {خَيْرٌ} على الخبرية لمبتدأ جائز إلا أنه خلاف الأول، وفي الكشف أنه يظهر من الوقوف على مراد صاحب الكشاف في هذا المقام إن فائدة النصب مع أن الرفع أقوى دفع الالتباس ليكون نصًا في المطلوب كما أوثر النصب في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ} [القمر: 49] لذلك، وينحل مراده من ذلك بالرجوع إلى ما نقلناه عنه سابقًا والتأمل فيه فتأمل فإنه دقيق.
هذا ولم نجد في السائل هنا خلافًا كما في السائل فيما تقدم، والذي رأيناه في كثير مما وقفنا عليه من التفاسير أن السائل الوفد الذي كان سائلًا أو لا في بعض الأقوال المحكية هناك، وذكر أنه السائل في الموضعين كثير منهم ابن أبي حاتم، فقد أخرج عن السدى قال اجتمعت قريش فقالوا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا أناسًا من أشرافكم المعدودين المعروفة انسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافد لقومه ينظر ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فينزل بهم قالوا له: يا فلان ابن فلان فيعرفه بنسبه ويقول: أنا أخبرك عن محمد صلى الله عليه وسلم هو رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم فذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أساطير الاولين} [النحل: 24] فإذا كان الوافد ممن عزم الله تعالى له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك قال: بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وانظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون: خيرًا الخ، نعم يجوز عقلا أن يكون السائل بعضهم لبعض ليقوى ما عنده بجوابه أو لنحو ذلك كالاستلذاذ بسماع الجواب وكثيرًا ما يسأل المحب عما يعلمه من أحوال محبوبه استلذاذًا دامة ذكره وتشنيفا لسمعه بسني دره:
الا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر *** ولا تسقني سرًا إذا أمكن الجهر
بل يجوز أيضًا أن يكون السائل من الكفرة المعاندين وغرضه بذلك التلاعب والتهكم {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} أتوا بالأعمال الحسنة الصالحة {فِى هذه} الدار {الدنيا حَسَنَةٌ} مثوبة حسنة جزاء إحسانهم، والجار والمجرور متعلق بما بعده على معنى أن تلك الحسنة لهم في الدنيا، والمراد بها على ما روي عن الضحاك النصر والفتح، وقيل: المدح والثناء منه تعالى، وقال الإمام: يحتمل أن يكون فتح باب المكاشفات والمشاهدات والالطاف كقوله تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] وقيل: متعلق بما قبله، وحينئذ يحتمل أن يكون الكلام على تقدير مثله متعلقًا بما بعد أولا بل تكون هذه الحسنة الواقعة مثوبة لاحسانهم في الدنيا في الآخرة، واقتصر بعضهم على هذا الاحتمال، والمراد بالحسنة حينئذ إما الثواب العظيم الذي أعده الله تعالى يوم القيامة للمحسنين وإما التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلمه غيره جل وعلا، واختير كونه متعلقًا بما بعد لأنه الأوفق بقوله سبحانه: {وَلَدَارُ الاخرة خَيْرٌ} والكلام كما يشعر به كلام غبر واحد على حذف مضاف أي ولثواب دار الآخرة أي ثوابهم فيها خير مما أوتوا في الدنيا من الثواب.
وجوز أن يكون المعنى خير على الإطلاق فيجوز إسناد الخيرية إلى نفس دار الآخرة {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين} أي دار الآخرة حذف لدلالة ما سبق عليه كما قاله ابن عطية. والزجاج. وابن الأنباري. وغيرهم، وهذا كلام مبتدأ عدة منه تعالى الذين اتقوا على قولهم، وهو في الوعد هاهنا نظير {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ} [النحل: 25] في الوعيد فيما مر، وجوز أن يكون {خَيْرًا} مفعول {قَالُواْ} وعمل فيه لأنه في معنى الجملة كمقال قصيده أو صفة مصدر أي قولًا خيرًا، وهذه الجملة بدل منه فمحلها النصب أو مفسرة له فلا محل لها من الأعراب، وعلى التقديرين مقولهم في الحقيقة {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ} إلخ إلا أن الله سبحانه سماه خيرًا ثم حكاه كما تقول: قال فلان جميلًا من قصدنا وجب حقه علينا، وعلى ما ذكر لا يكون دلالة النصب على ما مر لما أشير إليه هناك وإنما تكون من حيث شهادة اللهتعالى بخيرية قولهم ويحتمل جعل ذلك كما الكشف مفعول {أَنَزلَ} ويكون تسميته خيرًا من الله تعالى كما قوله سبحانه: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} [الزخرف: 9] ليشعر أول ما يقرع السمع بالمطابقة من غير نظر إلى فهم معناه؛ وأما قولهم: «للذين أحسنوا» أي قالوا أنزل هذه المقالة فإن ما يفهم من المطابقة بعد تدبر المعنى، وزعم بعضهم أنه لا يجوز جعله منصوبًا بأنزل لأن هذا القول ليس منزلًا من الله تعالى، وفيه تفوت المطابقة حينئذ وهو كلام ناشىء من قلة التدبر. وفي البحر الظاهر أن {لِلَّذِينَ} إلخ مندرج تحت القول وهو تفسير للخير الذي أنزل الله تعالى في الوحي، وظاهره أنه وجه آخر غير ما ذكر وفيه رد على الزاعم أيضًا، ولعل اقتصارهم على هذا من بين المنزل لأنه كلام جامع وفيه ترغيب للسائل، والمختار من هذه الأوجه عند جمع هو الأول بل قيل إنه الوجه.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13